جدار الأكاذيب
عبدالكريم هاني
كنت اسكن في اليرموك في مدينة كان اسمها دار السلام ، و كنت اذهب الى الأعظمية كل يوم تقريبا , و في كثير من الأحيان احمل جهاز الكومبيوتر معي كلما احتاج أمره الى تنظيم أو احتجت الى برنامج جديد فأسلمه الى "علاوي" كما كان كل عملاءه يدعونه تحببا . وكان علاوي هذا يأتي كل يوم من الكاظمية ليفتح محله في أحد أسواق الأعظمية يستقبل هواة الكومبيوتر والانترنيت لينظم أجهزتهم و يقدم لهم البرامج و الملفات التي تعجبهم ، و قد يقوم بتدريب البعض منهم ان كانوا بحاجة الى التدريب دون ان يكون في كل هذه القصة ما يلفت النظر أو يسبب القلق لأي طرف من الأطراف . بل كنت في أحيان كثيرة ازور محله بدون الكومبيوتر بحثا عن سؤال يخطر في البال أو لرغبة في تبادل الحديث معه على قدح من الشاي يعمله في المحل حينا أو يطلبه من بائع متجول قريب منه أحيانا .ا
أوردت هذه القصة بصيغة الماضي لأنها أصبحت بكل جملة منها ماضيا راح و أمسا غادرنا و تركنا بالحسرة بعد أن جاءتنا نعمة الديموقراطية تنشرها الطائرات و الدبابات و السيارات المصفحة و يحدوها العملاء و يباركونها بلحاهم وعمائمهم على اختلاف ألوانها. فلم يعد بالامكان البقاء في اليرموك ، بل لم يعد بالامكان الانتقال من اليرموك الى الأعظمية ‘ فقد اختفت بمهارة دبموقراطية بعض الجسور التي كانت تربطهما واغلق البعض الآخر بوجه من يريد الانتقال ، هذا اذا افلت من كتائب الموت التي زرعتها الديموقراطية و رعتها اداراتها على اختلاف مسمياتها و نقاط السيطرة الحقيقية و "الوهمية" والسيارات "التي تشبه السيارات الرسمية و تحمل أفرادا يرتدون ملابس تشبه ملابس الجيش ، أوتشبه ملابس الشرطة أو تشبه ملابس الحرس الوطني على حد تعبير البيانات الرسمية و أجهزة الاعلام "البريئة"1
أغلقت كتل كونكريتية ضخمة جسر الأئمة الذي كان يعبره علاوي و غيره كل يوم طيلة سنوات قبل "التحرير" و بعده قبل ان ترتفع أصوات أبناء "الديموقراطية " و وكلاءها المأجورين تفرض بقوة السلاح التطهير المذهبي في كل أحياء بغداد وغير بغداد و لم يعد أحدا قادرا على ان يتعهد لعلاوي و غيره بالحماية ، كما لم يعد أحد في الأحياء الأخرى مستعدا للمخاطرة بالتبرع بحماية اخوانهم الذين عاشوا و عاش آباؤهم بينهم و معهم جيلا بعد جيل ، فالقتلة المخلصون "تحملهم السيارت التي تشبه السيارات الرسمية و يرتدون ملابس تشبه ملابس . . . الى آخر معزوفة التضليل" و ينفذون المخطط الذي تدرب عليه عرابهم في فيتنام و نيكاراغوا و هندوراس و غيرها ، و لأجله أرسلتهم "أحزابهم" كمتطوعين الى اوربا الشرقية ليتدربوا عليه قبل عدوان آذار 2003 . و قد كانت كل حركة "تطهيرية" تستولد حركة موازية في الجهة المقابلة ، تهجيرا بتهجير و قتلا بقتل . ولم يعد يتنقل بين أحياء بغداد الا الصواريخ و قنابل الهاون و العصابات التي تستعمل السيارات المعلومة التي تشبه . . . و ترتدي ملابس تشبه . . . تمر من نقاط السيطرة "الحقيقية والوهمية" دون أن يعترض طريقها أحدا لتنفذ
مهمتها "الديموقراطية."ا
و نضجت الطبخة فأصبح المسرح جاهزا للخطوة التالية في الخطة المبتغاة حيث بدأت كتل كونكريتية ضخمة تظهر في بعض أطراف الأعظمية كل صباح و تصطف سويا و يتزايد عددها يوما بعد يوم ، و لم يكن وجود مثل هذه الكتل غريبا في مدن العراق بعد "التحرير" الى أن نشرت صحيفة جيش الاحتلال أن هذا جدار جديد يهدف الى حماية المنطقة من عدوان الآخرين !! و ثارت ثائرة البلد الذي عانى ما عانى من خطة التطهير و من الخطة "الأمنية" و منع التجوال و انعدام الخدمات و ارتفاع الأسعار و حملة الأكاذيب الرسمية التي تتحدث كل يوم بالرغم من كل ذلك عن نجاح الخطة الأمنية و استتباب الأمن و تحسن الأوضاع و التقدم الذي يحرزه البلد ، بينما تكذب هذه الادعاءات السيارات المفخخة و اعداد الجثث التي تلقى في الشوارع في أوقات منع التجوال , فكل جثة دليل صارخ على عجز الحكومة و فشل خطتها الأمنية و غير الأمنية ، لكن المكابرة و ادعاء التقدم و النجاح مستمرة. و أمام ردة الفعل القوية في المدن العراقية المختلفة التي أثارتها خطة انشاء الجدار و الضجة الكبرى التي استقبلت "دولة" رئيس الوزراء و هو يزور دول المنطقة ليسوق نجاح خطته الأمنية اضطر الى الإعلان انه "أمر" بوقف العمل بالجدار , لكن ناطقا رسميا قال ان الجدار يتم انشاؤه وفق خطة تم الانفاق عليها مسبقا ، و ضباط جيش الاحتلال قالوا انهم مستمرون ببناء الجدار , بل ان احدهم قال ان هناك اكثر من جدار سوف "تحمي" أربع مناطق أخرى في بغداد، و الناس ترى الجدار و العالم يشاهد صوره في التلفزيون كل حين ‘ ثم يستمع الى تصريحات "صاحب الدولة" حيث لا دولة ، و ظهر شخص "يرتدي ملابس شبيهة بملابس ضباط الجيش" ليقول في التلفزيون ان العمل قد توقف في بناء الجدار بناء على أوامر "دولة" الرئيس , ثم ظهر مرة أحرى بنفس الملابس ليمتدح الجدار و يقول ان هناك أربعة جدران أخرى سوف تتم اقامتها لحماية مناطق أخرى . سمعنا كل ذلك و شاهدنا و نشاهد الجدار يوميا فنتساءل أين الحقيقة و نتلفت باحثين : واحد بيننا يكذب !!ا
على غرار هذا قال ساترفيلد المنسق الأميركي في العراق ان الولايات المتحدة ستسحب جيشها حين تطلب الحكومة العراقية منها الانسحاب، و قال "القائد العام للقوات العراقية" انه لا يستطيع ان يحرك كتيبة من الجيش العراقي دون موافقة الأميركان ، فيتساءل الأغبياء اذا كان صاحبنا ( و صاحب الدولة أيضا ) لا يستطيع ان يحرك كتيبة من الكتائب التي هو قائدها العام فكيف يستطيع أن يأمر الجيش الأميركي بالخروج؟ : واحد منهما يكذب ! من هو ؟
و يستمر مسلسل القتل و الاختطاف و الاغتيال يعصف بالبلد و يتلفت الناس باحثين عن الأمن و الأمل
الموعود ‘ لكنهم يتذكرون بالحسرة قول الشاعر :ا
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم و لا سراة اذا جهالهم سادوا
و لم نر جهالا أشد جهلا من الذين نصبهم الاحتلال على مقاليد هذا الشعب .ا